فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} فيه التصريح منه عليه السلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالًا حتى يكون بذلك محلًا للتهمة، ويكون لقول الكافرين مجال بأنه إنما ادّعى ما ادعى طلبًا للدنيا، والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم، فيما قبل هذا.
وقوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} كالجواب عما يفهم من قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل عنه.
وقيل: إنهم سألوه طردهم تصريحًا لا تلميحًا، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} أي: لا أطردهم، فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا ما عنده سبحانه، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم، ويحتمل أنه قاله خوفًا من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم؛ ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه، والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال: {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} كل ما ينبغي أن يعلم، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم.
ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله: {وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ} أي: من يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردتهم؟ فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم، لا يقع من أنبياء الله المؤيدين بالعصمة، ولو وقع ذلك منهم فرضًا وتقديرًا لكان فيه من الظلم مالا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس.
وقوله: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} معطوف على مقدّر؛ كأنه قيل: أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر، أفلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره، وتتفكرون فيه، حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ، وما هم عليه من الصواب.
قوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئًا من أموالهم على تبليغ الرسالة، كذلك لا يدّعي أن عنده خزائن الله حتى يستدلوا بعدمها على كذبه، كما قالوا: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} والمراد بخزائن الله: خزائن رزقه: {وَلا أَعْلَمُ الغيب} أي: ولا أدّعي أني أعلم بغيب الله، بل لم أقل لكم إلا أني نذير مبين، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم: {وَلا أَقُولُ} لكم: {إِنّى مَلَكٌ} تقولوا ما نراك إلا بشرًا مثلنا.
وقد استدلّ بهذا من قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء، والأدلة في هذه المسألة مختلفة، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة، فليست مما كلفنا الله بعلمه: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} أي: تحتقر، والازدراء مأخوذ من أزرى عليه: إذا عابه، وزري عليه: إذا احتقره، وأنشد الفراء:
يباعده الصديق وتزدريه ** خليلته وينهره الصغير

والمعنى: إني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم: {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه؛ فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة، ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل، ولا يضرّهم احتقاركم لهم شيئًا: {الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ} من الإيمان به، والإخلاص له، فمجازيهم على ذلك، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء: {إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين} لهم إن فعلت ما تريدونه بهم، أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم، ثم جاوبوه بغير ما تقدّم من كلامهم وكلامه عجزًا عن القيام بالحجة، وقصورًا عن رتبة المناظرة، وانقطاعًا عن المباراة بقولهم: {يا نوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي: خاصمتنا بأنواع الخصام، ودفعتنا بكل حجة لها مدخل في المقام، ولم يبق لنا في هذا الباب مجال، فقد ضاقت علينا المسالك، وانسدّت أبواب الحيل: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب الذي تخوّفنا منه، وتخافه علينا: {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيما تقوله لنا، فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته، و: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم، وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة.
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} الذي أبذله لكم، وأستكثر منه قيامًا مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته، ولكم بإيضاح الحق وبيان بطلان ما أنتم عليه: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} وجواب هذا الشرط محذوف، والتقدير: إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، كما يدل عليه ما قبله: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي: إن كان الله يريد إغواءكم، فلا ينفعكم النصح مني، فكان جواب هذا الشرط محذوفًا كالأوّل، وتقديره ما ذكرنا، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدّم الجزاء على الشرط، وأما على مذهب من يجيزه، فجزاء الشرط الأوّل، {ولا ينفعكم نصحي}، وجزاء الشرط الثاني الجملة الشرطية الأولى وجزاؤها.
قال ابن جرير: معنى: {يغويكم} يهلككم بعذابه، وظاهر لغة العرب أن الإغواء: الإضلال؛ فمعنى الآية: لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد، ويخذلكم عن طريق الحق.
وحكى عن طيّ: أصبح فلان غاويًا: أي مريضًا، وليس هذا المعنى هو المراد في الآية.
وقد ورد الإغواء بمعنى الإهلاك، ومنه: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا} [مريم: 59] وهو غير ما في هذه الآية: {هُوَ رَبُّكُمْ} فإليه الإغواء وإليه الهداية: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} قال: فيما ظهر لنا.
وأخرج أبو الشيخ، عن عطاء، مثله.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} قال: قد عرفتها وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو، {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِه} قال: الإسلام الهدى والإيمان، والحكم والنبوّة.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} قال: أما والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: {أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون}.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، قال في قراءة أبيّ: {أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أبيّ بن كعب، أنه قرأ: {أنلزمكموها من شطر قلوبنا}.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ}، قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأرض سواء، وفي قوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} قال: فيسألهم عن أعمالهم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} التي لا يفنيها شيء، فأكون إنما دعوتكم لتتبعوني عليها، لا أعطيكم بملكه لي عليها: {وَلا أَعْلَمُ الغيب} لا أقول: اتبعوني على علمي بالغيب: {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ}. قال: حقرتموهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} قال: يعني: إيمانًا.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} قال: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطل. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
تَقَدَّمَ ذِكْرُ خُلَاصَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مُخْتَصَرَةً مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} (10: 71) إِلَخْ، وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا نُكْتَةَ هَذَا الْعَطْفِ فِيهَا، وَوَجْهَ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ فَكَانَ مُتَمِّمًا وَشَاهِدًا لَهُ، وَتَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُخْتَصَرَةً أَيْضًا مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (7: 59) وَأَشَرْتُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَاتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَامَّةً. وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُفَصَّلَةً مُنَاسِبَةً لِمَا قَبْلَهَا بِمَا نُبَيِّنُهُ فِيمَا يَلِي فَنَقُولُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} قَالَ الْمُعْرِبُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْوَاوَ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ لِأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِمَا يَصِحُّ جَعْلُهَا مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي السُّورَةِ، أَكَّدَ بِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي جُمْلَتِهِ لَا مَعَ آخِرِ آيَةٍ مِنْهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَا بُعِثَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَبَعْثِهِ نَذِيرًا وَبَشِيرًا، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ؛ لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنَّ حَالَهُ مَعَهُمْ كَحَالِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مَعَ أَقْوَامِهِمْ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {سُنَّةَ مِنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (17: 77) فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى قَوْمِكَ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ أُصُولِهِ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَخْ.
وَافْتُتِحَتِ الْقِصَّةُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ؛ لِإِنْكَارِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا لِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَقَدَّمْنَا بَيَانَ مَا كَانَ لِلْقَسَمِ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَأْكِيدِ الْكَلَامِ، وَنَاهِيكَ بِهِ فِي كَلَامِ اللهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مَنْ عُرِفَ عِنْدَهُمْ بِالصِّدْقِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ- أَيْ أَرْسَلْنَاهُ بِبَيَانِ وَظِيفَتِهِ مِنَ الْإِنْذَارِ لَهُمْ، أَوْ قَائِلًا لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بَيِّنُ الْإِنْذَارِ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ مَعَ بَيَانِ عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَهُ فَلَمْ يُذْعِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْإِرْسَالَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ} بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، بَلِ اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا {وَهَذَا عَيْنُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ} وَكَانُوا أَوَّلَ قَوْمٍ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَاتَّخَذُوا لَهُ الْأَنْدَادَ، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أَيْ شَدِيدِ الْأَلَمِ؛ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَوْ يَوْمُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِالطُّوفَانِ، وُصِفَ بِالْأَلَمِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِنَّمَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ مَنْ يُعَذَّبُ فِيهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، وَفِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (7: 59) أَيْ أَلَمُهُ وَهَوْلُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ نُوحٌ جَامِعًا لِمَعْنَى الْأَلَمِ وَمَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِ؛ إِذِ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْمَعَانِيَ الْمَحْكِيَّةَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي السُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ، وَيَأْتِي فِي بَعْضِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ فِي سُورَةِ {الْمُؤْمِنُونَ} بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرِهِ: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} (23: 23) وَمِثْلُهُ فِيهَا عَنِ الرَّسُولِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالتَّقْوَى، كَمَا كَرَّرَ حِكَايَتَهُ عَنْهُمْ فِي الشُّعَرَاءِ، إِذِ التَّقْوَى مِلَاكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ.
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أَيْ فَبَادَرَ الْمَلَأُ، أَيِ الْأَشْرَافُ وَالزُّعَمَاءُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْجَوَابِ لِيَكُونَ الدَّهْمَاءُ تَبَعًا لَهُمْ كَعَادَتِهِمْ، وَاقْتَرَنَ جَوَابُهُمْ هُنَا بِـ {الْفَاءِ}؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الرَّدِّ السَّرِيعِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ {الْمُؤْمِنُونَ} وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَفْصُولًا وَهُوَ: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (7: 60) لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْمُرَاجَعَةِ يُقَالُ: قَالَ... وَيُسَمَّى الِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّ الْمَوْصُولَ بِالْفَاءِ أُرِيدَ بِهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى نُوحٍ بِمَا يُبْطِلُ دَعْوَتَهُ بِزَعْمِهِمْ، وَالْمَفْصُولُ لَيْسَ إِلَّا طَعْنًا وَتَخْطِئَةً، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا رَمَوْهُ بِهِ لَا يُعْلَمُ مَتَى وَقَعَ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ جَوَابًا مُتَّصِلًا بِالدَّعْوَةِ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ!
{مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} فِي الْجِنْسِ، لَا مَزِيَّةَ لَكَ عَلَيْنَا تَكُونُ بِهَا نَذِيرًا لَنَا نُطِيعُكَ وَنَتَّبِعُكَ مُذْعِنِينَ لِنَبُّوتِكَ وَرِسَالَتِكَ {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أَيْ أَرْدِيَاؤُنَا وَأَخِسَّاؤُنَا يُقَالُ: رَذُلَ الشَّيْءُ أَوِ الْمَرْءُ بِضَمِّ الذَّالِ {كَضَخُمَ} فَهُوَ رَذْلٌ بِسُكُونِهَا {كَضَخْمٍ} وَجَمْعُهُ أَرْذُلٌ بِضَمِّ الذَّالِ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَرَاذِلُ أَوْ هُوَ جَمْعُ {أَرْذَلَ} بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، وَيُؤَيِّدُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (25: 111) وَيَعْنُونَ بِهِمْ مَنْ دُونَ طَبَقَةِ الْأَشْرَافِ وَالْأَكَابِرِ كَالزُّرَّاعِ وَالصُّنَّاعِ وَالْعُمَّالِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ إِذَا فَهِمُوهُ لِعَدَمِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِمْ {بَادِيَ الرَّأْيِ} أَيْ اتَّبَعُوكَ فِي بَادِي الرَّأْيِ أَيْ ظَاهِرِهِ الَّذِي يَبْدُو لِلنَّاظِرِ فِيهِ، قَبْلَ الْعِلْمِ بِمَا وَرَاءَ قَوَادِمِهِ مِنْ خَوَافِيهِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي بَاطِنِهِ، وَالْغَوْصِ فِي أَعْمَاقِهِ، أَوْ فِي بَدْئِهِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ قَبْلَ تَكْرَارِ التَّفْكِيرِ فِيهِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِهِ وَتَوَالِيهِ، فَالْيَاءُ عَلَى هَذَا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ هَمْزَةٍ لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أَبِي عُمَرَ بِالْهَمْزَةِ {بَادِئَ} وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَبْلَغُ لِاحْتِمَالِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أَيْ وَمَا نَرَى لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ عَلَيْنَا أَدْنَى فَضْلٍ تَمْتَازُونَ بِهِ فِي جَمَاعَتِكُمْ، كَالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْيِ يَحْمِلُنَا عَلَى اتِّبَاعِكُمْ وَالنُّزُولِ عَنْ جَاهِنَا وَامْتِيَازِنَا عَلَيْكُمْ بِالْجَاهِ وَالْمَالِ لِمُسَاوَاتِكُمْ {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أَيْ بَلِ الْأَمْرُ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّنَا نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ فِي جُمْلَتِكُمْ: الْمَتْبُوعُ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَالتَّابِعُونَ فِي تَصْدِيقِهِ، فَهِيَ إِذًا ائْتِمَارٌ بِنَا تُحَاوِلُونَ بِهِ أَنْ تَقْلِبُوا الْحَقِيقَةَ فَتَجْعَلُوا الْفَاضِلَ مَفْضُولًا، وَالشَّرِيفَ مَشْرُوفًا، وَقَدْ كَرَّمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالتَّكْذِيبِ فَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالظَّنِّ.
أَجَابُوهُ بِأَرْبَعِ حُجَجٍ دَاحِضَةٍ:
(الْأُولَى) أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَسَاوَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام كَانَ مِنْ طَبَقَتِهِمْ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا فِي بَيْتِهِ وَفِي شَخْصِهِ، وَهَكَذَا كَانَ كُلُّ رَسُولٍ مِنْ وَسَطِ قَوْمِهِ، وَوَجْهُ الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُسَاوَاةَ تُنَافِي دَعْوَى تَفَوُّقِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِجَعْلِ أَحَدِهِمَا تَابِعًا طَائِعًا، وَالْآخَرِ مَتْبُوعًا مُطَاعًا؛ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ.
(وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْهُ مِنْهُمْ إِلَّا أَرَاذِلُهُمْ فِي الطَّبَقَةِ وَالْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ {بَادِيَ الرَّأْيِ} لَا بِدَلِيلٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَبِهَذَا تَنْتَفِي الْمُسَاوَاةُ فَيَنْزِلُ هُوَ عَنْ رُتْبَةِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا إِلَى رُتْبَةِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الطَّبَقَاتِ السُّفْلَى، وَهَذَا مُرَجِّحٌ لِرَدِّ دَعْوَتِهِ وَالتَّوَلِّي عَنْهُ.
(الثَّالِثَةُ) عَدَمُ رُؤْيَةِ فَضْلٍ لَهُ مَعَ جَمَاعَتِهِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ عَصَبِيَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ غَالِبَةٍ، أَوْ غَيْرِ هَذَا مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تَرْفَعُ الْأَرَاذِلَ مِنْ مَقْعَدِهِمْ فِي السِّفْلَةِ، فَيَهُونُ عَلَى الْأَشْرَافِ مُسَاوَاتُهُمْ فِي اتِّبَاعِهِ.
(الرَّابِعَةُ) أَنَّهُمْ بَعْدَ الْإِضْرَابِ أَوْ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا ذَكَرُوا مِنَ التَّنَافِي وَالتَّعَارُضِ يُرَجِّحُونَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ فِي هَذَا الدَّعْوَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَجِّحُ الْأَقْوَى لِرَدِّ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ أَخَّرُوهُ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوهُ لَمَا بَقِيَ لِذِكْرِ تِلْكَ الْعِلَلِ الْأُخْرَى وَجْهٌ وَهِيَ وَجِيهَةٌ فِي نَظَرِهِمْ لابد لَهُمْ مِنْ بَيَانِهَا، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ طَعْنٌ لَهُمْ عَلَى نُوحٍ عليه السلام أَشْرَكُوهُ فِيهِ مَعَ أَتْبَاعِهِ وَلَمْ يُجَابِهُوهُ بِهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَجْزِمُوا بِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُ فِي طَبَقَتِهِمْ مِنَ الرَّذَالَةِ، وَنَحْنُ نَرَى مَلَاحِدَةَ هَذَا الْعَصْرِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي حُجَجِهِمُ الدَّاحِضَةِ، وَغُرُورِهِمْ وَعَمَى قُلُوبِهِمْ، لَا يَفْضُلُونَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا الْغُرُورَ بِفُنُونِ الْإِفْرِنْجِ وَقُوَّتِهِمْ، وَجَعْلِهَا حُجَّةً عَلَى تَقْلِيدِ أَرَاذِلِهِمْ فِي شَرِّ رَذَائِلِهِمْ، وَتَحْقِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ وَلُغَتِهِمْ، فَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ تَقْلِيدُ قَوْمِ نُوحٍ لِآبَائِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُمْ، وَالْبَلَاءُ عِنْدَنَا مِنْ فَسَادِ أُمَرَائِنَا وَبَاشَاوَاتِنَا وَأَغْنِيَائِنَا، فَهُمْ فِي مَجْمُوعِهِمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ كَمَلَأِ نُوحٍ شَرُّ طَبَقَاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَشَدُّهَا فَسَادًا وَإِفْسَادًا.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ دَحْضَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي رَدُّوا بِهَا عَلَيْهِ وَشُبُهَاتٍ أُخْرَى مِنْ لَوَازِمِهَا، وَرُبَّمَا صَرَّحُوا بِهَا وَاسْتُغْنِيَ عَنْ حِكَايَتِهَا بِالْعِلْمِ بِهَا مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهَا، وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ فَتَأَمَّلْهُ.
{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} خَاطَبَهُمْ عليه السلام بِلَقَبِ الْقَوْمِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ يَا قَوْمِي، وَحَذْفُ الْيَاءِ مِنَ الرَّسْمِ مُرَاعَاةً لِلنُّطْقِ اسْتِعْطَافًا وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَكَلِمَةُ {أَرَأَيْتُمْ} تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي عَنْ رَأْيِكُمْ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ (10) 50 و59 وَغَيْرِهَا، وَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا آنِفًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 17.
أَيْ أَخْبِرُونِي يَا قَوْمِيَ الْأَعِزَّاءَ مَا رَأْيُكُمْ وَقَوْلُكُمْ فِي حَالِي مَعَكُمْ، إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ تَبَيَّنَ لِي بِهَا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِي وَكَسْبِيَ الْبَشَرِيِّ الَّذِي تُشَارِكُونَنِي فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} وَهِيَ النُّبُوَّةُ وَتَعَالِيمُ الْوَحْيِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ رَحْمَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ لِمَنْ يَهْتَدِي بِهَا فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِعِبَادِهِ كُلِّهِمْ {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ {عَمِيَتْ} بِالتَّخْفِيفِ كَخَفِيَتْ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَمِثْلُهَا {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} (28: 66) وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ فَحَجَبَهَا عَنْكُمْ جَهْلُكُمْ وَغُرُورُكُمْ وَجَاهُكُمْ فَلَمْ تَسْتَبِينُوا بِهَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِذْ جَعَلْتُمُونِي بَشَرًا مِثْلَكُمْ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ{عُمِّيَتْ} مُخَفَّفَةً وَمُشَدَّدَةً أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِخَفِيَتْ وَأُخْفِيَتْ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَمَى الْمُقْتَضِي لِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْخَفَاءِ، وَيَجُوزُ عَوْدَةُ الضَّمِيرِ إِلَى الْبَيِّنَةِ لِاقْتِضَاءِ خَفَائِهَا خَفَاءَ الرَّحْمَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الدَّلِيلِ مَعَ الْمَدْلُولِ، وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إِلَى الرَّحْمَةِ بِاعْتِبَارِ ذِكْرِهَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَخَفِيَتْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةُ اللهِ لَكُمْ بِهَذِهِ النُّبُوَّةِ لِخَفَاءِ الْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا، أَوْ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ خَاصَّةٌ بِهِ عليه السلام، وَهِيَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ النَّبِيُّ أَنَّهُ نَبِيٌّ {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أَيْ أَنُلْزِمُكُمْ إِيَّاهَا بِالْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ كَارِهُونَ لَهَا إِنْكَارًا وَجُحُودًا وَاسْتِكْبَارًا؟ أَيْ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِيمَانِ الْإِذْعَانِ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَهُوَ أَوَّلُ نَصٍّ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ فِي سَابِقِ تَارِيخِهِمْ- وَمَا لَا يَزَالُ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهِمْ- مِنَ التَّنْصِيرِ بِإِجْبَارِ الْأَقْوَامِ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَهُوَ مِمَّا امْتَازُوا بِهِ عَلَى أُمَمِ الشَّرْقِ فِي ظُلْمِهِمْ وَتَعَصُّبِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ إِثْبَاتٌ لِنُبُوَّتِهِ عليه السلام وَرَدٌّ لِإِنْكَارِهِمْ لَهَا وَتَكْذِيبِهِ وَمَنْ مَعَهُ فِيهَا، وَإِبْطَالٌ لِشُبْهَتِهِمُ الْأُولَى فِي أَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَقْتَضِي اسْتِوَاءَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَيَدْفَعُهَا مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَالْخُبْرِ (بِالضَّمِّ أَيِ الِاخْتِبَارِ) مِنَ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَالرَّأْيِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، حَتَّى إِنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَيَأْتِي مِنَ الْإِصْلَاحِ لِقَوْمِهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَا يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ الْأُلُوفُ الْكَثِيرُونَ فِي الْقُرُونِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَكُلُّ هَذَا فِي مُحِيطِ التَّفَاوُتِ الْعَادِيِّ، وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَفَوْقَهُمَا مَا اخْتَصَّ اللهُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا لَا كَسْبَ لَهُمْ فِيهِ فَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلًا لَهُ، كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ.